فصل: تخصيص الرسول لأبي بكر بالصحبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 الصحابة، خصه بذلك في الحديث الصحيح، الذي رواه البخاري عن أبي الدرداء، أنه كان بين أبي بكر وعمر كلام، فطلب أبو بكر من عمر أن يستغفر له فامتنع عمر، وجاء أبو بكر إلي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ما جري، ثم إن عمر ندم، فخرج يطلب أبا بكر في بيته، فذكر له أنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء عمر أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يغضب لأبي بكر، وقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، إني جئت إليكم فقلت‏:‏ إني رسول الله إليكم، فقلتم‏:‏ كذبت‏.‏ وقال أبو بكر‏:‏ صدقت، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي‏؟‏‏!‏ فهل أنتم تاركوا لي صاحبي‏؟‏‏!‏‏)‏، فما أوذي بعدها‏.‏ فهنا خصه باسم الصحبة، كما خصه به القرآن في قوله تعالي‏:‏/ ‏{‏ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏، وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة، فاختار ذلك العبد ما عند الله‏)‏، فبكي أبو بكر، فقال‏:‏ بل نفديك بأنفسنا؛ وأموالنا‏.‏ قال‏:‏ فجعل الناس يعجبون أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا به‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخي وصاحبي، سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر‏)‏، وهذا من أصح حديث يكون باتفاق العلماء العارفين بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وأحواله‏.‏

والمقصود أن الصحبة فيها خصوص وعموم، وعمومها يندرج فيه كل من رآه مؤمنًا به، ولهذا يقال‏:‏ صحبته سنة، وشهرًا، وساعة، ونحو ذلك‏.‏

 

و‏[‏معاوية وعمرو بن العاص وأمثالهم‏]‏ من المؤمنين، لم يتهمهم أحد من السلف بنفاق، بل قد ثبت في الصحيح أن عمرو بن العاص لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ علي أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي‏.‏ فقال‏:‏/ ‏(‏ياعمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله‏)‏، ومعلوم أن الإسلام الهادم هو إسلام المؤمنين، لا إسلام المنافقين‏.‏

وأيضًا فعمرو بن العاص وأمثاله ممن قدم مهاجرًا إلي النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية هاجروا إليه من بلادهم طوعًا لا كرهًا، والمهاجرون لم يكن فيهم منافق، وإنما كان النفاق في بعض من دخل من الأنصار؛ وذلك أن الأنصار هم أهل المدينة، فلما أسلم أشرافهم وجمهورهم، احتاج الباقون أن يظهروا الإسلام نفاقًا؛ لعز الإسلام وظهوره في قومهم‏.‏ وأما أهل مكة فكان أشرافهم وجمهورهم كفارًا فلم يكن يظهر الإيمان إلا من هو مؤمن ظاهرًا وباطنًا؛ فإنه كان من أظهر الإسلام يؤذي ويهجر، وإنما المنافق يظهر الإسلام لمصلحة دنياه‏.‏ وكان من أظهر الإسلام بمكة يتأذي في دنياه، ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلي المدينة هاجر معه أكثر المؤمنين، ومنع بعضهم من الهجرة إليه، كما منع رجال من بني مخزوم مثل الوليد بن المغيرة أخو خالد أخو أبي جهل لأمه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت لهؤلاء ويقول في قنوته‏:‏ ‏(‏اللهم نج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين‏.‏ اللهم اشدد وطأتك علي مضر، واجعلها عليهم سنينًا كسني يوسف‏)‏‏.‏ والمهاجرون من أولهم إلي آخرهم ليس فيهم من اتهمه أحد بالنفاق، بل كلهم مؤمنون مشهود لهم بالإيمان، ولعن المؤمن كقتله‏)‏‏.‏

/وأما ‏[‏معاوية بن أبي سفيان‏]‏ وأمثاله من الطلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة؛ كعكرمة ابن أبي جهل، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، هؤلاء وغيرهم ممن حسن إسلامهم باتفاق المسلمين، ولم يتهم أحد منهم بعد ذلك بنفاق‏.‏ ومعاوية قد استكتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب‏)‏‏.‏

وكان أخوه يزيد بن أبي سفيان خيرًا منه وأفضل، وهو أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ في فتح الشام، ووصاه بوصية معروفة، وأبو بكر ماشٍ، ويزيد راكب، فقال له‏:‏ يا خليفة رسول الله، إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال‏:‏ لست براكب، ولست بنازل، إني أحتسب خطاي في سبيل الله‏.‏ وكان عمرو بن العاص هو الأمير الآخر والثالث شرحبيل بن حسنة، والرابع خالد بن الوليد، وهو أميرهم المطلق، ثم عزله عمر، وولي أبا عبيدة عامر بن الجراح، الذي ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له أنه أمين هذه الأمة، فكان فتح الشام علي يد أبي عبيدة، وفتح العراق علي يد سعد بن أبي وقاص‏.‏

ثم لما مات يزيد بن أبي سفيان في خلافة عمر استعمل أخاه معاوية، وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة، وأخبرهم بالرجال، وأقومهم / بالحق، وأعلمهم به، حتي قال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ كنا نتحدث أن السكينة تنطق علي لسان عمر‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله ضرب الحق علي لسان عمر وقلبه‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر‏)‏، وقال ابن عمر‏:‏ ما سمعت عمر يقول في الشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان كما رآه‏.‏ وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما رآك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك‏)‏‏.‏ ولا استعمل عمر قط، بل ولا أبو بكر علي المسلمين‏:‏ منافقًا، ولا استعملا من أقاربهما، ولا كان تأخذهما في الله لومة لائم، بل لما قاتلا أهل الردة وأعادوهم إلي الإسلام منعوهم ركوب الخيل وحمل السلاح حتي تظهر صحة توبتهم، وكان عمر يقول لسعد بن أبي وقاص ـ وهو أمير ـ العراق‏:‏ لا تستعمل أحدًا منهم، ولا تشاورهم في الحرب‏.‏ فإنهم كانوا أمراء أكابر؛ مثل طليحة الأسدي، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، والأشعث بن قيس الكندي، وأمثالهم، فهؤلاء لما تخوف أبو بكر وعمر منهم نوع نفاق لم يولهم علي المسلمين‏.‏

فلو كان ‏[‏عمرو بن العاص‏]‏ و ‏[‏معاوية بن أبي سفيان‏]‏ وأمثالهما ممن يتخوف منهما النفاق لم يولوا علي المسلمين، بل عمرو بن العاص قد أمره النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات السلاسل، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يول علي المسلمين منافقًا، وقد استعمل علي نجران أبا سفيان بن حرب أبا معاوية، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان / نائبه علي نجران، وقد اتفق المسلمون علي أن إسلام معاوية خير من إسلام أبيه أبي سفيان، فكيف يكون هؤلاء منافقين والنبي صلى الله عليه وسلم يأتمنهم علي أحوال المسلمين في العلم والعمل‏؟‏‏!‏ وقد علم أن معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما كان بينهم من الفتن ما كان، ولم يتهمهم أحد من أوليائهم، لا محاربوهم، ولا غير محاربيهم بالكذب علي النبي صلى الله عليه وسلم، بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون علي أن هؤلاء صادقون علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مأمونون عليه في الرواية عنه، والمنافق غير مأمون علي النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو كاذب عليه، مكذب له‏.‏

وإذا كانوا مؤمنين، محبين لله ورسـوله، فمن لعنهم فقـد عصـي الله ورسوله، وقد ثبت في صحيح البخاري ما معناه‏:‏ أن رجلاً يلقب حمارًا، وكـان يشرب الخمر، وكان كلما شـرب أتي به إلي النبي صلى الله عليه وسلم، فجلده، فأتي به إليه مرة، فقال رجل‏:‏ لعنه الله‏!‏ ما أكثر ما يؤتي به إلي النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تلعنوه، فإنه يحب الله ورسوله‏)‏‏.‏ وكل مؤمن يحب الله ورسوله، ومن لم يحب الله ورسوله فليس بمؤمن، وإن كانوا متفاضلين في الإيمان وما يدخل فيه من حب وغيره، هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها‏.‏ وقد نهي عن لعنة هذا المعين؛ لأن اللعنة من ‏[‏باب الوعيد‏]‏ فيحكم به / عمومًا، وأما المعين فقد يرتفع عنه الوعيد لتوبة صحيحة، أو حسنات ماحية أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة، أو غير ذلك من الأسباب التي ضررها يرفع العقوبة عن المذنب، فهذا في حق من له ذنب محقق‏.‏

وكذلك ‏[‏حاطب بن أبي بلتعة‏]‏ فعل ما فعل وكان يسيء إلي مماليكه، حتي ثبت في الصحيح أن غلامه قال‏:‏ يارسول الله، والله ليدخلن حاطب ابن أبي بلتعة النار‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏كذبت، إنه شهد بدرًا، والحديبية‏)‏‏.‏ وفي الصحيح عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله والزبير بن العوام، وقال لهما‏:‏ ‏(‏ائتيا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب‏)‏ قال علي‏:‏ فانطلقنا تتعادي بنا خيلنا حتي لقينا الظعينة، فقلنا‏:‏ أين الكتاب‏؟‏ فقالت‏:‏ ما معي كتاب‏.‏ فقلنا لها‏:‏ لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، قال‏:‏ فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كتاب من حاطب إلي بعض المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما هذا يا حاطب‏؟‏‏!‏‏)‏ فقال‏:‏ والله يارسول الله ما فعلت هذا ارتدادًا عن ديني، ولا رضاء بالكفر بعد الإسلام، ولكن كنت امرأ ملصقًا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المسلمين لهم قرابات يحمون بهم أهاليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك منهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي‏.‏ وفي لفظ‏:‏ وعلمت أن ذلك لا يضرك، يعني‏:‏ لأن الله ينصر رسوله والذين آمنوا‏.‏ فقال عمر‏:‏ دعني / أضرب عنق هذا المنافق‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه قد شهد بـدرًا، وما يدريك أن الله قد اطلع علي أهل بدر فقال لهم‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏)‏‏.‏ فهذه السيئة العظيمة غفرها الله له بشهود بدر‏.‏

فدل ذلك علي أن الحسنة العظيمة يغفر الله بها السيئة العظيمة، والمؤمنون يؤمنون بالوعد والوعيد، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة‏)‏ وأمثال ذلك، مع قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏10‏]‏‏.‏

 ولهـذا لا يشهــد لمعين بالجنـة إلا بدليـل خاص، ولا يشهـد علي معين بالنـار إلا بدليـل خاص، ولا يشهد لهم بمجرد الظن من اندراجهم في العموم؛ لأنه قد يندرج في العمومين فيستحق الثواب والعقاب؛ لقوله تعالي‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏، والعبد إذا اجتمع له سيئات وحسنات فإنه وإن استحق العقاب علي سيئاته فإن الله يثيبه علي حسناته، ولا يحبط حسنات المؤمن لأجل ما صدر منه، وإنما يقول بحبوط الحسنات كلها بالكبيرة، الخوارج والمعتزلة، الذين يقولون بتخليد أهل الكبائر، وأنهم لا يخرجون منها بشفاعة ولا غيرها وأن صاحب الكبيرة لا يبقي معه من الإيمان شيء‏.‏ وهذه أقوال فاسدة، مخالفة للكتاب، والسنة المتواترة، وإجماع الصحابة‏.‏

/وسائر أهل السنة والجماعة وأئمة الدين لا يعتقدون عصمة أحد من الصحابة ولا القرابة ولا السابقين ولا غيرهم، بل يجوز عندهم وقوع الذنوب منهم، والله تعالي يغفر لهم بالتوبة، ويرفع بها درجاتهم، ويغفر لهم بحسنات ماحية، أو بغير ذلك من الأسباب، قال تعالي‏:‏ ‏{‏وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 33‏:‏ 35‏]‏، وقال تعالي‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15، 16‏]‏‏.‏

ولكن الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ هـم الذين قال العلماء‏:‏ إنهم معصومون من الإصرار علي الذنوب، فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة‏.‏ وأما ما اجتهدوا فيه، فتارة يصيبون، وتارة يخطئون‏.‏ فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطؤوا فلهم أجر علي اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم‏.‏ وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين؛ فتارة يغلون فيهم، ويقولون‏:‏ إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم، ويقولون‏:‏ إنهم باغون بالخطأ وأهل العلم والإيمان لا يعصمون، ولا يؤثمون‏.‏

/ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال‏.‏ فطائفة سبت السلف ولعنتهم، لاعتقادهم أنهم فعلوا ذنوبًا، وأن من فعلها يستحق اللعنة، بل قد يفسقونهم، أو يكفرونهم، كما فعلت الخوارج الذين كفروا علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، ومن تولاهما، ولعنوهم، وسبوهم، واستحلوا قتالهم‏.‏ وهؤلاء هم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تمرق مارقة علي فرقة من المسلمين، فتقاتلها أولي الطائفتين لأجل الحق‏)‏، وهؤلاء هم المارقة الذين مرقوا علي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكفروا كل من تولاه‏.‏ وكان المؤمنون قد افترقوا فرقتين‏:‏ فرقة مع علي، وفرقة مع معاوية، فقاتل هؤلاء عليا وأصحابه، فوقع الأمر كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وكما ثبت عنه ـ أيضًا ـ في الصحيح أنه قال عن الحسن ابنه‏:‏ ‏(‏إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين‏)‏، فأصلح الله به شيعة علي وشيعة معاوية‏.‏

وأثني النبي صلى الله عليه وسلم علي الحسن بهذا الصلح الذي كان علي يديه وسماه سيدًا بذلك؛ لأجل أن ما فعله الحسن يحبه الله ورسوله، ويرضاه الله ورسوله‏.‏ ولو كان الاقتتال الذي حصل بين المسلمين هو الذي أمر الله به بين ورسوله لم يكن الأمر كذلك، بل يكون الحسن قد ترك الواجب، أو الأحب إلي / الله‏.‏ وهذا النص الصحيح الصريح يبين أن ما فعله الحسن محمود، مرضي لله ورسوله، وقد ثبت في الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضعه علي فخذه، ويضع أسامة بن زيد، ويقول‏:‏ ‏(‏اللهم إني أحبهما، وأحب من يحبهما‏)‏، وهذا ـ أيضًا ـ مما ظهر فيه محبته ودعوته صلى الله عليه وسلم، فإنهما كانا أشد الناس رغبة في الأمر الذي مدح النبي صلى الله عليه وسلم به الحسن، وأشد الناس كراهة لما يخالفه‏.‏

وهذا مما يبين أن القتلي من أهل صفين لم يكونوا عند النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة الخوارج المارقين، الذين أمر بقتالهم، وهؤلاء مدح الصلح بينهم ولم يأمر بقتالهم؛ ولهذا كانت الصحابة والأئمة متفقين علي قتال الخوارج المارقين، وظهر من علي ـ رضي الله عنه ـ السرور بقتالهم، ومن روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم‏:‏ ما قد ظهر عنه، وأما قتال الصحابة فلم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أثر، ولم يظهر فيه سرور، بل ظهر منه الكآبة، وتمني ألا يقع، وشكر بعض الصحابة، وبرأ الفريقين من الكفر والنفاق، وأجاز الترحم علي قتلي الطائفتين، وأمثال ذلك من الأمور التي يعرف بها اتفاق علي وغيره من الصحابة علي أن كل واحدة من الطائفتين مؤمنة‏.‏

 وقد شهد القرآن بأن اقتتال المؤمنين لا يخرجهم عن الإيمان بقوله تعالي‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9، 10‏]‏، فسماهم ‏[‏مؤمنين‏]‏ وجعلهم ‏[‏إخوة‏]‏ مع وجود الاقتتال والبغي‏.‏

والحديث المذكور‏:‏ ‏(‏إذا اقتتل خليفتان فأحدهما ملعون‏)‏ كذب مفتري، لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من دواوين الإسلام المعتمدة‏.‏

و ‏[‏معاويـة‏]‏ لم يَدَّعِ الخلافة،ولم يبـايع له بـها حين قاتـل عليـًا،ولم يقاتل علي أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا عليا وأصحابه بالقتال، ولا يعلوا‏.‏

بل لما رأي علي ـ رضي الله عنه ـ وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته؛ إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة، رأي أن يقاتلهم حتي يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة‏.‏

وهم قالوا‏:‏ إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا علي ذلك كانوا مظلومين قالوا‏:‏ لأن عثمان قتل مظلومًا باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون / لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا‏.‏ وعلي لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان، وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر علي أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف‏.‏

وكان في جـهال الفريـقين من يظن بعلي وعثمان ظنونًا كاذبـة ـ بـرأ الله منـها عليا، وعثمان ـ كان يظن بعلي أنه أمر بقتل عثمان، وكان علي ـ يحلف وهو البار الصادق بلا يمين ـ أنه لم يقتله ولا رضي بقتله،ولم يمالئ علي قتله‏.‏ وهذا معلوم بلا ريب من علي ـ رضي الله عنه ـ فكان أناس من محبي علي ومن مبغضيه يشيعون ذلك عنه؛ فمحبوه يقصدون بذلك الطعن علي عثمان بأنه كان يستحق القتل، وأن عليا أمر بقتله،ومبغضوه يقصدون بذلك الطعن علي علي، وأنه أعان علي قتل الخليفة المظلوم الشهيد الذي صبر نفسه ولم يدفع عنها ولم يسفك دم مسلم في الدفع عنه، فكيف في طلب طاعته‏؟‏‏!‏ وأمثال هذه الأمور التي يتسبب بها الزائغون علي المتشيعين العثمانية، والعلوية‏.‏

وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفأ لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف علي ـ رضي الله عنه ـ فإن فضل علي وسابقيته، وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله، كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ /ولم يكن بقي من أهل الشوري غيره وغير سعد، وسعد كان قد ترك هذا الأمر، وكان الأمر قد انحصر في عثمان وعلي؛ فلما توفي عثمان لم يبق لها معين إلا علي ـ رضي الله عنه ـ وإنما وقع الشر بسبب قتل عثمان، فحصل بذلك قوة أهل الظلم والعدوان وضعف أهل العلم والإيمان، حتي حصل من الفرقة والاختلاف ما صار يطاع فيه من غيره أولي منه بالطاعة؛ ولهذا أمر الله بالجماعة والائتلاف، ونهي عن الفرقة والاختلاف؛ ولهذا قيل‏:‏ ما يكرهون في الجماعة خير مما يجمعون من الفرقة‏.‏

وأما الحديث الذي فيه ‏(‏أن عمارًا تقتله الفئة الباغية‏)‏، فهذا الحديث قد طعن فيه طائفة من أهل العلم؛ لكن رواه مسلم في صحيحه، وهو في بعض نسخ البخاري، قد تأوله بعضهم‏:‏ علي أن المراد بالباغية، الطالبة بدم عثمان، كما قالوا‏:‏ نبغي ابن عفان بأطراف الأسل‏.‏ وليس بشيء، بل يقال ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو حق كما قاله، وليس في كون عمارًا تقتله الفئة الباغية ما ينافي ما ذكرناه، فإنه قد قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏9، 10‏]‏، فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغي مؤمنين إخوة،بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين‏.‏وليس كل ما كان /بغيا وظلمًا أو عدوانًا يخرج عموم الناس عن الإيمان، ولا يوجب لعنتهم، فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون‏؟‏‏!‏

وكل من كان باغيا، أو ظالمًا، أو معتديا، أو مرتكبًا ما هو ذنب، فهو قسمان متأول، وغير متأول، فالمتأول المجتهد؛ كأهل العلم والدين، الذين اجتهدوا، واعتقد بعضهم حل أمور، واعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جري ذلك وأمثاله من خيار السلف‏.‏ فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال الله تعالي‏:‏ ‏{‏ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء‏.‏

وقد أخبر ـ سبحانه ـ عن داود وسليمان ـ عليهما السلام ـ أنهما حكما في الحرث، وخص أحدهما بالعلم والحكم، مع ثنائه علي كل منهما بالعلم والحكم‏.‏ والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملومًا ولا مانعًا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثمًا وظلمًا، والإصرار عليه فسقًا، بل متي علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرًا‏.‏ فالبغي هو من هذا الباب‏.‏

/أما إذا كان الباغي مجتهدًا ومتأولاً، ولم يتبين له أنه باغ، بل اعتقد أنه علي الحق وإن كان مخطئًا في اعتقاده، لم تكن تسميته ‏[‏باغيا‏]‏ موجبة لإثمه، فضلاً عن أن توجب فسقه‏.‏ والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين، يقولون‏:‏ مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم؛ لا عقوبة لهم؛ بل للمنع من العدوان‏.‏ ويقولون‏:‏ إنهم باقون علي العدالة؛ لا يفسقون‏.‏ ويقولون‏:‏ هم كغير المكلف، كما يمنع الصبي والمجنون والناسي والمغمي عليه والنائم من العدوان ألا يصدر منهم، بل تمنع البهائم من العدوان‏.‏ ويجب علي من قتل مؤمنًا خطأ الدية بنص القرآن مع أنه لا إثم عليه في ذلك، وهكذا من رفع إلي الإمام من أهل الحدود وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحد، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والباغي المتأول يجلد عند مالك والشافعي وأحمد ونظائره متعددة‏.‏

ثم بتقدير أن يكون ‏[‏البغي‏]‏ بغير تأويل، يكون ذنبًا، والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة‏:‏ بالحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، وغير ذلك‏.‏

ثم ‏(‏إن عمارًا تقتله الفئة الباغية‏)‏ ليس نصًا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه، بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتي قتلته، وهي طائفة من العسكر، ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها‏.‏ ومن المعلوم أنه / كان في المعسكر من لم يرض بقتل عمار؛ كعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيره، بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار، حتي معاوية، وعمرو‏.‏

ويروي أن معاوية تأول أن الذي قتله هو الذي جاء به، دون مقاتليه، وأن عليا رد هذا التأويل بقوله‏:‏ فنحن إذًا قتلنا حمزة‏.‏ ولا ريب أن ما قاله علي هو الصواب، لكن من نظر في كلام المتناظرين من العلماء الذين ليس بينهم قتال ولا ملك، وأن لهم في النصوص من التأويلات ما هو أضعف من معاوية بكثير‏.‏ ومن تأول هذا التأويل لم ير أنه قتل عمارًا، فلم يعتقد أنه باغ، ومن لم يعتقد أنه باغ وهو في نفس الأمر باغ، فهو متأول مخطئ‏.‏

والفقهاء ليس فيهم من رأيه القتال مع من قتل عمارًا، لكن لهم قولان مشهوران كما كان عليهما أكابر الصحابة؛ منهم من يري القتال مع عمار وطائفته، ومنهم من يري الإمساك عن القتال مطلقًا‏.‏ وفي كل من الطائفتين طوائف من السابقين الأولين‏.‏ ففي القول الأول عمار، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب‏.‏ وفي الثاني سعد بن أبي وقاص؛ ومحمد بن مسلمة؛ وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر ونحوهم‏.‏ ولعل أكثر الأكابر من الصحابة كانوا علي هذا الرأي، ولم يكن في العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن أبي وقاص، وكان من القاعدين‏.‏

/و ‏[‏حديث عمار‏]‏ قد يحتج به من رأي القتال؛ لأنه إذا كان قاتلوه بغاة فالله يقول‏:‏ ‏{‏ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، والمتمسكون يحتجون بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ‏(‏أن القعود عن الفتنة خير من القتال فيها‏)‏، وتقول‏:‏ إن هذا القتال ونحوه وهو قتال الفتنة؛ كما جاءت أحاديث صحيحة تبين ذلك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقتال، ولم يرض به، وإنما رضي بالصلح، وإنما أمر الله بقتال الباغي، ولم يأمر بقتاله ابتداء، بل قال‏:‏ ‏{‏ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، قالوا‏:‏ والاقتتال الأول لم يأمر الله به، ولا أمر كل من بغي عليه أن يقاتل من بغي عليه؛ فإنه إذا قتل كل باغ كفر، بل غالب المؤمنين، بل غالب الناس، لا يخلو من ظلم وبغي، ولكن إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب الإصلاح بينهما؛ وإن لم تكن واحدة منهما مأمورة بالقتال، فإذا بغت الواحدة بعد ذلك قوتلت؛ لأنها لم تترك القتال؛ ولم تجب إلي الصلح؛ فلم يندفع شرها إلا بالقتال‏.‏ فصار قتالها بمنزلة قتال الصائل الذي لا يندفع ظلمه عن غيره إلا بالقتال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فبتقدير أن جميع العسكر بغاة فلم نؤمر بقتالهم ابتداء، بل أمرنا بالإصلاح / بينهم، وأيضًا فلا يجوز قتالهم إذا كان الذين مع علي ناكلين عن القتال، فإنهم كانوا كثيري الخلاف عليه ضعيفي الطاعة له‏.‏والمقصود أن هذا الحديث لا يبيح لعن أحد من الصحابة، ولا يوجب فسقه‏.‏وأما ‏[‏أهل البيت‏]‏ فلم يسبوا قط‏.‏ ولله الحمد‏.‏

ولم يقتل الحجاج أحدًا من بني هاشم، وإنما قتل رجالاً من أشراف العرب، وكان قد تزوج بنت عبد الله بن جعفر، فلم يرض بذلك بنو عبد مناف ولا بنو هاشم ولا بنو أمية، حتي فرقوا بينه وبينها، حيث لم يروه كفئًا‏.‏ والله أعلم‏.‏